الكون، هذا الحاسوب الهائل
ما الفرق بين الحاسوب والثقب الأسود؟ يشكل هذا السؤال، الذي يبدو كما لو كان مزحة من ميكروسوفت، إحدى أعمق القضايا البحثية في علم الفيزياء المعاصرة. فمعظم الناس يتصورون أن الحاسوب آلة متخصصة، بيد أنه بالنسبة إلى الفيزيائيين يمكن اعتبار جميع المنظومات الفيزيائية حواسيب. صحيح إن الصخور والقنابل الذرية والمجرات لا تستخدم برنامجا حاسوبيا، مثل اللينوكس Linux</SPAN>، غير أنها تسجل معلومات وتعالجها. والواقع إن الحالة الكمومية لكل إلكترون أو فوتون أو أي جسيم أولي آخر تخزن بتات bits</SPAN> من المعلومات، وعندما يتآثر جسيمان منها، فإن هذه البتات تتحول. فالوجود الفيزيائي والمحتوى المعلوماتي متصلان معا بصورة لا يمكن فكّها.
قد تبدو الثقوب السوداء وكأنها تمثل استثناء للقاعدة التي تقول إن كل شيء يَحسب. فإدخال المعلومات في الثقوب السوداء ممكن، ولكن استخراج المعلومات منها أمر مستحيل بموجب نظرية النسبية العامة لآينشتاين. فالمادة التي تدخل في ثقب أسود لا تخرج منه والتفصيلات المتعلقة بمكوناتها تضيع إلى الأبد.
إلا أن < S</SPAN>. هوكنگ> [من جامعة كامبردج] بيّن في السبعينيات من القرن العشرين أنه عند أخذ الميكانيك الكمومي في الاعتبار فإنه يتبين أن هذه الثقوب يجب أن تصدر إشعاعا مثلها تقريبا مثل جسم متوهج. إلاّ أنه بموجب تحليل <هوكنگ> فإن لهذا الإشعاع صفات عشوائية؛ فهو لا يحمل أي معلومات تتعلق بما دخل الثقب. فلو أن فيلا سقط داخل الثقب الأسود فإن ما يكافئ مادته من الطاقة سيخرج ولكن بطريقة اعتباطية لا يمكن الاستفادة منها من حيث المبدأ، لإعادة تشكيل الحيوان.
إن ضياع المعلومات الظاهري هذا يشكل مأزقا حقيقيا نظرا لكون قوانين الميكانيك الكمومي تحافظ على المعلومات. لذا تصدى علماء آخرون، منهم < L</SPAN>. سَسْكِند> [من جامعة ستانفورد] و< J</SPAN>. پريسْكِل> [من معهد كاليفورنيا للتقانة] و< G</SPAN>. هوفت> [من جامعة أوترخت في هولندا] لحل هذا المأزق، فحاولوا تبيان أن الإشعاع المنبعث من الثقب الأسود ليس في واقع الأمر، عشوائيا وإنما هو معالجة معينة للبيانات التي تمثل المادة التي سقطت في الثقب. وفي صيف عام 2004 انضم ّ<هوكنگ> نفسه إلى وجهة نظر هؤلاء العلماء: فالثقوب السوداء إذا تعالج هي أيضا المعلومات ولا تخربها.
• لمجرد كونها موجودة، فإن جميع المنظومات الفيزيائية تخزن معلومات. ومع تطور هذه المنظومات ديناميكيا مع الزمن فإنها تعالج تلك المعلومات. فالكون يحسب. • إذا كانت المعلومات تستطيع الإفلات من الثقوب السوداء، كما يظن معظم الفيزيائيين حاليا، فالثقب الأسود يقوم أيضا بعمل حاسوبي. ويتناسب حجم فضاء ذاكرته مع مربع معدل الحوسبة. والطبيعة الكمومية للمعلومات هي المسؤولة عن قدرة الحوسبة هذه؛ ولولا الآثار الكمومية لأتلف الثقب الأسود المعلومات بدلا من معالجتها. • إن قوانين الفيزياء التي تحد من قدرة الحواسيب هي ذاتها التي تحدد الدقة التي يمكن أن تقاس بها هندسة الزمكان. وهذه الدقة أقل مما كان يظنه الفيزيائيون سابقا، الأمر الذي يشير إلى أن «ذرات» المكان والزمان ربما تكون أكبر مما كان متوقعا. |
وليست الثقوب السوداء سوى المثال الأكثر غرابة على المبدأ العام القاضي بأن الكون يخزن المعلومات ويعالجها. وهذا المبدأ ليس جديدا بحد ذاته؛ إذ إن مؤسسي الميكانيك الإحصائي في القرن التاسع عشر كانوا قد طوروا ما عُرِف لاحقا باسم نظرية المعلومات information theory</SPAN> لتفسير قوانين الترموديناميك. ويبدو لأول وهلة أن الترموديناميك ونظرية المعلومات ينتميان إلى عالمين مختلفين: إذ إن تطوير الترموديناميك جرى من أجل وصف الآلات البخارية في حين جرى تطوير الفرع الآخر لتحسين الاتصالات. إلا أنه تبيّن أن الكمية الترموديناميكية المعروفة باسم الأنتروپية entropy</SPAN>، والتي تحد من قدرة عمل الآلة على تقديم عمل مفيد، ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعلومات. فأنتروپية منظومة مادية تزداد مع ازدياد عدد البتات التي تصف مواضع جزيئات هذه الجملة المادية وسرعاتها. وقد وضع طرح النظرية الكمومية في القرن العشرين الفكرة السابقة على أساس كمي متين وفتح أمام العلماء مفهوم المعلومات الكمومية الرائع. والبتات المكونة للكون هي «بتات كمومية» qubits</SPAN> ذات صفات أغنى بكثير من البتات المعتادة.
إن تحليل الكون بدلالة البتات والبايتات bytes</SPAN> ليس بديلا من تحليله بدلالة المقادير التقليدية كالقوة والطاقة مثلا، ولكنه يكشف عن حقائق جديدة مذهلة. فقد تمكن العلماء في حقل الميكانيك الإحصائي على سبيل المثال، من حل مفارقة «شيطان ماكسويل» Maxwell's demon</SPAN>، وهو جهاز تخيلي يبدو كما لو أنه يسمح بالحركة الدائمة. ومنذ عدة سنين نقوم، كما يقوم فيزيائيون آخرون، بتطبيق المنظور نفسه في علم الكون والفيزياء الأساسية: ماهية الثقوب السوداء، والبنية الدقيقة للزمكان، وسلوك الطاقة الكونية الخفية، والقوانين النهائية للطبيعة. إن الكون ليس مجرد حاسوب عملاق وإنما هو حاسوب «كمومي» عملاق.
</STRONG>
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
حــــــيـــاكم اللـــه
</STRONG>
</STRONG>